أسماء الله و صفاته و موقف أهل السنة منها
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ، ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، بلسانه ، ويده، وماله، حتى أتاه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
أيها الأخوة الحاضرون فإني أذكركم ونفسي بما أنعم الله به على هذه البلاد من نعمة الإسلام قديماً وحديثاً ، هذه البلاد التي كانت محل الرسالة رسالة محمد ، صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين الذي بعث إلى الناس كافة ، بل إلى الجن والإنس .
هذه البلاد التي كما بدأ منها الإسلام فإليها يعود كما ثبت به الحديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : ( إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها ) [1].
هذه البلاد التي لا أعلم والله شاهد على ما في قلبي لا أعلم بلاًداً إسلامية في عصرنا أقوى منها تمسكاً بدين الله لا بالنسبة لشعبها ، ولكن بالنسبة لشعبها ومن ولاّه أمرها . وهذه النعمة الكبيرة أيها الأخوة إذا لم نشكرها فإنها كغيرها من النعم توشك أن تزول ، يوشك أن يحل بدل الإيمان الكفر ، وبدل الإسلام الاستكبار ، إذا لم نقيد هذه النعمة بالمحافظة عليها وحمايتها والمدافعة دونها .
أيها الأخوة .. إن هذه البلاد بما أنعم الله به عليها من هذه النعمة العظيمة ، وهي نعمة الإسلام أولاً وأخيراً كانت مركزاً لتوجيه الضربات عليها من أجل صد أهلها عن دينهم ، ليس في الأخلاق فحسب ولكن في الأخلاق والعقائد ، ولذلك كان لزاماً على شبابها وأخص الشباب لأسباب ثلاثة :لأنهم رجال المستقبل ، ولأنهم أقوى عزيمة ، وأشد حزماً ممن بردت أنفسهم بالشيخوخة ، ولأنهم الذين تركز عليهم هذه الضربات .
إنني أوجه إلى الشباب أن يحموا بلادهم من كيد أعدائهم ، فإن أعدائهم يوجهون الضربات تلو الضربات ليقضوا على هذه المنة العظيمة التي من الله بها علينا ألا وهي دين الإسلام .
أيها الشباب : استعينوا بالله – سبحانه وتعالى- بما علمكم من شريعته ، ثم بحكمة الشيوخ ذوي الثقة ، والأمانة والعلم ، والبرهان ، فاستعينوا بذلك على حماية بلادكم من كيد أعدائها ، وأعلموا أن الدنيا تبع للدين، وأنها لن تتم النعمة، ولن تتم الحياة الدنيا ولن تكون حياة طيبة إلا بالإيمان ، والعمل الصالح كما قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النحل:97) .
أيها الأخوة : إن المشكلات في عصرنا هذا كثيرة و إني اخترت الكلام في :
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه البخاري جـ2 ص222 كتاب فضائل المدينة و رواه مسلم جـ1 ص131 كتاب الإيمان .
أسماء الله و صفاته و موقف أهل السنة منها
و لعل الكثير منكم يقول : لماذا اخترت هذا الموضوع بالذات ، ألسنا كلنا وبالأخص أهل هذه الجزيرة ، ألسنا كلنا نؤمن بأسماء الله وصفاته على ما يليق به، ولا نتعرض لها بتحريف ، ولا تعطيل ؟!أليست العجوز منا، والشيخ، والصغير، والذكر، والأنثى، كل على حد سواء لا يجول في أفكارهم شيء من التحريف أو الأنحراف في أسماء الله وصفاته .فلماذا اخترت هذا الموضوع بالذات؟ وإن جوابي على هذا أن أقول: إنني اخترت هذا الموضوع لأمرين هامين :
أحدهما : أهمية هذا الموضوع ، فإن هذا الموضوع ليس كما يظن بعض الناس ، ولا أعني ببعض الناس عامتهم ، بل حتى بعض طلبة العلم يظنون أن البحث في هذا الباب – في باب أسماء الله وصفاته – ليس بذي قيمة تذكر ، والحقيقة أن هذا الفكر فكر خاطيء ، لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وتوحيده بذلك ، وصفاته هو أحد أقسام التوحيد الثلاثة فقد قسم أهل العلم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
أحدها : توحيد الربوبية .
والثاني : توحيد الألوهية .
والثالث : توحيد الأسماء والصفات .
إذن فهو عنصر هام في باب التوحيد يجب علينا أن نعرفه ،كما أنه أيضاً أعني معرفة الأسماء والصفات هو أحد أركان الإيمان بالله فإن الإيمان بالله لايتم إلا بأربعة أمور :
أحدها : الإيمان بوجوده تعالى .
والثاني : الإيمان بربوبيته ، وعموم ملكه ، وقوة سلطانه .
والثالث: الإيمان بألوهيته ، وأنه وحده المستحق للعبادة ، وأن ما سواه فعبادته باطلة.
أما الأمر الرابع من أركان الإيمان بالله التي لا يمكن أن يتم الإيمان بالله إلا بها وهو موضوع محاضرتنا هذه ، فهو الإيمان بأسماء الله وصفاته .
إنني لا أتصور أن أحداً يمكن أن يعبد رباً لأ يعرف أسماءه وصفاته وكيف يكون ذلك وهو يمد يديه له : يارب ، يارب ، إذا كان لايعلم أن له صفات وأسماء يدعى بها ؟ فكيف يتخذه إلهاً قادراً ، ملجئاً ومعاذاً ، ونصيراًولهذا قال إبراهيم الخليل لأبيه (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(مريم:42).فمعرفة أسماء الله وصفاته أمر مهم في دين الله ولابد أن يعرفه الإنسان ويحققه .
أما السبب الثاني لاختياري هذا الموضوع : فهو كثرة الكلام فيه بالباطل في الآونة الأخيرة ، كنا في وقت الطلب نقرأه على أنه أمر بعيد عنا زمنا ، ومكانا ، ولكننا وجدناه الآن فيما بيننا في الصحف المقرؤة ، وكذلك في الكتب المقررة في بعض جهات التعليم .إذن لابد أن نعرف موقف أهل السنة والجماعة بالنسبة لأسماء الله وصفاته ، حتى نكون يقظين حذرين ، وعالمين بما نحكم به فيما ينشر أو فيما يقرر .فالكلام في أسماء الله وصفاته في الآونة الأخيرة كثر اللغط فيه ، وكثر القول فيه بالحق تارة ، وبالباطل تارات ، ولهذا لابد أن نحقق هذا الأمر تحقيقاً بالغاً حتى لاتجرف بنا الأهواء أو الأفكار التي على خطأ ، وليست على صواب في هذا الأمر وإني ألخص الكلام في العناصر التالية :
العنصر الأول : في موقف أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات .
العنصر الثاني : في نصوص الأسماء والصفات .
العنصر الثالث : في العدول عن هذا الموقف .
العنصر الرابع : في أن التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله .
العنصر الخامس : في أن بعض أهل التحريف ، والتعطيل اعتدوا على أهل السنة والجماعة فرموهم بالتشبيه ، والتمثيل ، والتجسيم .
العنصر السادس : في أن أهل التحريف والتعطيل ادعوا على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموا أهل السنة بالتأويل في بقية النصوص أو بالمداهنة وفي إبطال هذه الدعوى.
العنصر الأول: موقف أهل السنة في أسماء الله – تبارك وتعالى - :
أسماء الله تعالى كل ما سمى به نفسه في كتابة ، أو سماه به أعلم الخلق به رسوله محمد ، صلى الله عليه و سلم ، وموقف أهل السنة من هذه الأسماء أنهم يؤمنون بها على أنها أسماء لله تسمى بها الله عزوجل ، وأنها أسماء حسنى ليس فيها نقص بوجه من الوجوه كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأعراف:180) .
فهم يثبتون الأسماء على أنها أسماء لله ، وبثبتون أيضاً ما تضمنته هذه الأسماء من الصفات ، فمثلاً من أسماء الله ( العليم ) فيثبتون العليم اسماً لله – سبحانه وتعالى- ، ويقولون:يا عليم . فيثبتون أنه يسمى بالعليم ويثبتون بأن العلم صفة له دل عليها اسم العليم ، فالعليم اسم مشتق من العلم ، وكل اسم مشتق من معنى فلابد أن يتضمن ذلك المعنى الذي اشتق منه ، وهذا أمر معلوم في العربية واللغات جمعياً . ويثبتون كذلك ما دل عليه الاسم من الأثر إن كان الاسم مشتقاً من مصدر متعدي ، فمثلاً ( الرحيم ) من أسماء الله يؤمنون بالرحيم على أنه اسم من أسمائه ، ويؤمنون بما تضمنه من صفة الرحمة ، وأن الرحمة صفة حقيقية ثابتة لله دل عليها اسم الرحيم ، وليست إرادة الإحسان لا الإحسان نفسه ،وإنما إرادة الإحسان والإحسان نفسه من آثار هذه الرحمة ، كذلك يؤمنون بأثر هذه الرحمة والأثر أن يرحم بهذه الرحمة من يستحقها كما قال تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)(العنكبوت:21) .هذه قاعدة أهل السنة والجماعة بالنسبة للأسماء : يؤمنون بأنها أسماء تسمى الله بها فيدعون الله بها .
ثانياً : يؤمنون بما تضمنه الاسم من الصفة ، لأن جميع أسماء الله مشتقة ، والمشتق كما هو معروف يكون دالا على المعنى الذي اشتق منه .
ثالثاً : يؤمنون بما تضمنه الاسم من الأثر إذا كان الاسم متعدياً كالعليم ، والرحيم ، والسميع ، والبصير .أما إذا كان الاسم مشتقاً من مصدر لازم فإنه لا يتعدى مسماه مثل الحياة فالله تعالى من أسمائه ( الحي ) ، و ( الحي ) دل على صفة الحياة ، والحياة وصف للحي نفسه لايتعدي إلى غيره ، ومثل ( العظيم ) فهذا الاسم والعظمة هي الوصف ، والعظمة وصف للعظيم نفسه لا تتعدى إلى غيره ، فعلى هذا تكون الأسماء على قسمين : متعدي ولازم ، والمتعدي لايتم الإيمان به إلا بالأمور الثلاثة : الإيمان بالاسم ، ثم بالصفة ثم بالأثر .
وأما اللازم فإنه لايتم الإيمان إلا بإثبات أمرين :
أحدهما : الاسم .
والثاني :الصفة .
أما موقف أهل السنة والجماعة في الصفات فهو : إثبات كل صفة وصف الله بها نفسه ، أو وصفه بها رسوله محمد ، صلى الله عليه و سلم ، لكن إثباتاً بلا تكييف ولاتمثيل، ولاتحريف ، ولاتعطيل ، سواء كانت هذه الصفة من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية .
فإذا قال قائل : فرقوا لنا بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية .
قلنا : الصفات الذاتية هي التي تكون ملازمة لذات الخالق أي انه متصف بها أزلاً وأبداً .
والصفات الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته فيفعلها الله تبعاً لحكمته – سبحانه وتعالى - .
مثال الأول: صفة الحياة صفة ذاتية ، لأن الله لم يزل ولايزال حياً ، كما قال الله تعالى : (هُوَ الأوَّلُ وَالأخِر)(الحديد: الآية3) وفسرها النبي ، صلى الله عليه و سلم ، بقوله : ( أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ) . وقال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)(الفرقان: الآية58) .
كذلك السمع ، والبصر ، والقدرة كل هذه من الصفات الذاتية ، ولاحاجة إلى التعداد لأننا عرفناها بالضابط : ( كل صفة لم يزل الله ولايزال متصفاً بها فإنها من الصفات الذاتية ) لملازمتها للذات ، وكل صفة تتعلق بمشيئته يفعلها الله حيث اقتضتها حكمته فإنها من الصفات الفعلية مثل : استوائه على العرش ، ونزوله إلى السماء الدنيا ، فاستواء الله على العرش من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئته ، كما قال تعالى : (إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(الأعراف: الآية54) . فجعل الفعل معطوفاً على ماقبله ب( ثم ) الدالة على الترتيب ، ثم النزول إلى السماء الدنيا وصفه به أعلم الخلق به رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، حيث قال : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: (من يدعوني فأستجيب له . من يسألنى فأعطيه. من يستغفرني فأغفرله) . وهذا النزول من الصفات الفعلية لأنه متعلق بمشيئة الله تعالى ، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك ، ولكنهم في هذا الإيمان يتحاشون التمثيل ، أو التكييف ، أي أنهم لايمكن أن يقع في نفوسهم أن نزوله كنزول المخلوقين ، أو استوائه على العرش كاستوائهم ، أو إتيانه للفصل بين عباده كإتيانهم لأنهم يؤمنون بأن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11) ويعلمون بمقتضى العقل مابين الخالق والمخلوق من التباين العظيم في الذات ، والصفات ، والأفعال ، ولايمكن أن يقع في نفوسهم كيف ينزل؟ أو كيف استوى على العرش؟ أو كيف يأتي للفصل بين عباده يوم القيامة ؟ أي أنهم لايكيفون صفاته مع إيمانهم بأن لها كيفية لكنها غير معلومة لنا ، وحينئذٍ لايمكن أبداً أن يتصوروا الكيفية ، ولايمكن أن ينطقوا بها بألسنتهم أو يعتقدوها في قلوبهم .يقول تعالى
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الاسراء:36) . ويقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) .و لأن الله أجل و أعظم من أن تحيط به الأفكار قال تعالى : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طـه:110) .
و أنت متى تخيلت أي كيفية فعلى أي صورة تتخيلها؟! إن حاولت ذلك فإنك في الحقيقة ضال، و لا يمكن أن تصل إلى حقيقة لأن هذا أمر لا يمكن الإحاطة به ، و ليس من شأن العبد أن يتكلم فيه أو أن يسأل عنه . و لهذا قال الإمام مالك – رحمه الله – فيما اشتهر عنه بين أهل العلم حين سأله رجل فقال : يا أبا عبد الله : ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء – يعني العرق و صار ينزف عرقاً – لأنه سؤال عظيم . ثم قال تلك الكلمة المشهورة
الاستواء معلوم و الكيف مجهول ، و الإيمان واجب ، و السؤال عنه بدعة ) و روى عنه أنه قال : ( الاستواء غير مجهول ، و الكيف غير معقول ، و الإيمان به واجب ، و السؤال عنه بدعة ) .فإذن نحن نعلم معاني صفات الله ، و لكننا لا نعلم الكيفية ، و لا يحل لنا أن نسأل عن الكيفية و لا يحل لنا أن نكيف ، كما أنه لا يحل لنا أن نمثل أو نشبه لأن الله تعالى يقول في القرآن : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11) . فمن أثبت له مثيلاً في صفاته فقد كذب القرآن ، و ظن بربه ظن السوء و قد تنقص ربه حيث شبهه و هو الكامل من كل وجه بالناقص ، و قد قيل :
ألم تر أن السيـف ينقص قــدره
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
و أنا أقول : هذا على سبيل التوضيح للمعنى و إلا ففرق عظيم بين الخالق و المخلوق ، فرق لا يوجد مثله بين المخلوقات بعضها مع بعض .
المهم أيها الأخوة أنه يجب علينا أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه و ما وصفه به رسوله ، صلى الله عليه و سلم،سواء كانت تلك الصفة ذاتية أم فعلية،و لكن بدون تكييف،وبدون تمثيل .
التكييف ممتنع، لأنه قول على الله بغيرعلم ، و قد قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الاسراء:36) .و التمثيل ممتنع ، لأنه تكذيب لله في قوله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11).و قول بما لا يليق بالله تعالى من تشبيهه بالمخلوقين .
العنصر الثاني : في نصوص الأسماء و الصفات :
المعترك بين أهل السنة و أهل البدعة في هذه النصوص ، معترك يتبين به الفرق الشاسع بين أهل السنة و أهل البدعة ، فأهل السنة يثبتون النصوص على حقيقتها و ظاهرها اللائق بالله من غير تحريف و لا تعطيل . هذه الطريق التي مشى عليها أهل السنة و الجماعة .و اخترنا كلمة ( تحريف ) على كلمة ( تأويل ) لأن التحريف معناه باطل بكل حال ذم الله تعالى من سلكه في قوله : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(النساء: الآية46) .أما التأويل ففيه ما هو صحيح مقبول ، و فيه ما هو فاسد مردود ، و الفاسد المردود هو بمعنى التحريف ، و لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في العقيدة الواسطية و هي خلاصة عقيدة أهل السنة و الجماعة اختار التحريف بدل التأويل و إن كان يوجد في كثير من كتب العقائد التعبير ( بالتأويل ) .لكنهم يريدون بالتأويل ما هو بمعنى التحريف أي التأويل الذي لا دليل عليه ، بل الدليل نقيضه و هذا في الحقيقة تحريف .فأهل السنة و الجماعة يقولون : نحن نؤمن بهذه الآيات ، و الأحاديث و لا نحرفها ، لأن تحريفها قول على الله بغير علم من وجهين ، يتبين ذلك في قوله تعالى : (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر: الآية22) .
قال أهل السنة و الجماعة : جاء ربك أي هو نفسه يجيء - سبحانه و تعالى - ، لكنه مجيء يليق بجلاله و عظمته لا يشبه مجيء المخلوقين ، و لا يمكن أن نكيفه ، و علينا أن نضيف الفعل إلى الله كما أضافه الله إلى نفسه . فنقول : إن الله تعالى يجيء يوم القيامة مجيئاً حقيقياً يجيء هو نفسه ، و قال أهل التحريف معناه : و جاء أمر ربك .و هذا جناية على النص من وجهين :
الوجه الأول : نفي ظاهره فأين لهم العلم من أن الله تعالى لم يرد ظاهره هل عندهم علم من أن الله لم يرد ظاهر ما أضافه لنفسه ؟! والله تعالى يقول عن القرآن إنه نزله بلسان عربي مبين فعلينا أن نأخذ بدلالة هذا اللفظ حسب مقتضى هذا اللسان العربي المبين . فمن أين لنا أن يكون الله تعالى لم يرد ظاهر اللفظ ؟! فالقول بنفي ظاهر النص قول على الله بغير علم .
الوجه الثاني : إثبات معنى لم يدل عليه ظاهر اللفظ ، فهل عنده علم أن الله تعالى أراد المعنى الذي صرف ظاهر اللفظ إليه ؟! هل عنده علم أن الله أراد مجيء أمره ؟! قد يكون المراد جاء شيء آخر ينسب إلى الله غير الأمر . فإذاً كل محرف أي كل من صرف الكلام عن ظاهره بدون دليل من الشرع فإنه قائل على الله بغير علم من وجهين :
الأول : نفيه ظاهر الكلام .
الثاني : إثباته خلاف ذلك الظاهر .
لهذا كان أهل السنة والجماعة يتبرأون من التحريف ، ويرون أنه جناية على النصوص ، وأنه لايمكن أن يخاطبنا الله تعالى بشيء ويريد خلاف ظاهره بدون أن يبين لنا ، وقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء والنبي ، صلى الله عليه و سلم ، بيّن للناس ما أنزل إليهم من ربهم بإذن ربهم . أما التمثيل فمن الواضح أن القول به تكذيب للقرآن ، لأن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية11) . ولهذا كان عقيدة أهل السنة والجماعة ، بل طريقة أهل السنة والجماعة في نصوص الصفات من الآيات ، والأحاديث ، هو إثباتها على حقيقتها وظاهرها اللائق بالله ، بدون تحريف وبدون تعطيل ، وقد حكى إجماع أهل السنة على ذلك ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد ) و نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – و كذلك نقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال : ( أجمع أهل السنة على تحريم التشاغل بتأويل آيات النصوص و أحاديثها ، و أن الواجب إبقاؤها على ظاهرها ) .
العنصر الثالث : "العدول عن هذا الموقف تطرف دائر بين الإفراط والتفريط"
العدول عن هذا الموقف – أعني موقف أهل السنة و الجماعة – تطرف إما إفراط ، و إما تفريط ، لأن الناس انقسموا في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام : طرفان ، ووسط طرف غلا في التنزيه حتى نفى ما أثبته الله لنفسه ، و طرف آخر غلا في الإثبات حتى أثبت ما نفاه الله عن نفسه .فإن من أهل البدع من أثبت النصوص على ظاهرها ، و لكنه جعل هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين و العياذ بالله . فأثبت النقص لربه بإلحاقه بالمخلوق الناقص ، و أخطأ في ظنه أن ظاهرها التمثيل . أثبت أن لله – تعالى – سمعاً ، و أن لله تعالى وجهاً ، و أن لله تعالى عيناً ، وأن له يداً لكنه جعل ذلك كله من جنس صفات المخلوقين ، غلا في الإثبات حتى بلغ به إلى التمثيل . و قد قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، و لا شك أنه كافر و أن الله – سبحانه و تعالى – لم يرد بهذه النصوص هذا الظاهر الذي ادعاه هذا الممثل. و قد يقول القائل : أين دليلك على أن الله ما أراده ؟ فأقول: الدليل عندي نقلي ،و عقلي :
أما النقلي فآيات متعددة تنفي المماثلة عن الله و أصرحها و أبينها قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية11) .
و أما الدليل العقلي : فإنه لا يمكن أبداً أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق في أي صفة في أي صفة من صفاته لظهور الفرق العظيم بينهما في الذات ، و الصفات ، و الأفعال .
و من أهل البدع من حرف النصوص عن ظاهرها ، و نفى مدلولها اللائق بالله ، و هؤلاء المحرفون انقسموا إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : قسم غلا في ذلك غلواً عظيماً حتى نفي النقيضين في حق الله ، فقال : لا تقل إن الله موجود و لا تقل غير موجود . إن قلت موجود شبهته بالموجودات ،و إن قلت غير موجود شبهته بالمعدومات . و لا ريب أن هذا تنكره العقول كلها لأن رفع أحد النقيضين أمر مستحيل ، و التقابل بين الوجود و العدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن اجتماعهما و لا ارتفاعهما .
القسم الثاني : من قال نثبت السلب و لا نثبت الإيجاب فلا نصف الله بصفات ثبوتية ، و لكن نصفه بالسلوب و الإضافات و نثبت الأسماء مجردة عن المعاني ، و هذا ما عليه عامة الجهمية و المعتزلة .
القسم الثالث : من يقول : نثبت بعض الصفات لدلالة العقل عليها ، و ننكر بعض الصفات ، لأن العقل لا يثبتها ، و يعضهم يقول لأن العقل ينكرها .
و كل هذه الأقسام الثلاثة – و إن كانت تختلف من حيث البعد عن الحق – كلها على غير صواب فهي متطرفة ، فالقول الوسط ما عليه أهل السنة و الجماعة : أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من الصفات ، و لكنه إثبات مجرد عن التكييف ، و عن التمثيل ، و بذلك نكون عملنا بالنصوص الشرعية من الجانبين ، و لم ننظر بعين أعور ، و بذلك نكون قد تأدبنا مع الله و رسوله فلم نقدم بين يدي الله و رسوله ، و إنما التزمنا غاية الأدب سمعنا و آمنا ، و أطعنا ما أثبته الله لنفسه أثبتناه ، و ما أثبته له رسوله أثبتناه ، و ما نفاه الله عن نفسه نفيناه ، و ما نفاه عنه رسوله نفيناه و ما سكت عنه سكتنا عنه .
العنصر الرابع : التطرف في التنزيه يستلزم إبطال الدين كله .
ذكرنا أن من الناس من تطرف في التنزيه حتى أنكر الصفات ، أو أنكر بعضها ، أو أنكر الإيجابية منها ، أو أنكر الإيجابي و السلبي فأقول : إن التطرف في التنزيه في كل أقسامه يؤدي إلى إبطال الدين كله . مثال ذلك: إذا كان المنزه يثبت بعض الصفات و ينكر بعضها قلنا له: لماذا تثبت و لما تنكر ؟ قال : أثبت هذه الصفات لأن العقل دل عليها ، و أنكر هذه الصفات لأن العقل لم يدل عليها أو دل على نفيها .
فيقول له القوم الآخرون : نفي جميع الصفات لأن العقل لا يدل عليها ، أو لأن العقل دل على نفيها . فلا يستطيع الأول أن يرد على هؤلاء لأنه إذا رد عليهم بأن العقل يثبت ذا و ينكر ذا أو لا يثبته قال : أنا عقلي لا يثبت ما تثبت و ما دام المرجع هو العقل فإن ما أنكرته أنت بحجة العقل فأنا أنكر ما أنكر بحجة العقل و لكن الأمر لا ينتهي عند موضوع الصفات .
بل يأتينا أهل التخييل الذين أنكروا اليوم الآخر ، و أنكروا رسالة الرسل بل أنكروا وجود الله رأساً – و العياذ بالله – فيقولون : عقولنا لا تقبل أن تحيا العظام و هي رميم ، لا تقبل وجود جنة و لا نار ، فيحتجون بالعقل كما احتج هؤلاء بالعقل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : و إثبات الصفات في القرآن و السنة أكثر من إثبات المعاد ، فأي إنسان ينكر الصفات فإنه لا يمكن أن يدفع إنكار من أنكر المعاد ، ولاريب أن إنكار المعاد ، وإنكار الشرائع إبطال للدين كله ، والخلاص من هذا هو إتباع طريق السلامة أن نثبت ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات ، وننفي ما نفاه الله عن نفسه من الصفات ، ونسكت عما سكت عنه وبهذا لايمكن لأي إنسان أن يفحمنا ، لأننا قلنا إن هذه المسائل الغيبية إنما تدرك بالشرع والمنقول عن المعصوم والعقول مضطربة ومختلفة . وكل إنسان من مدعي العقل يدعي وجوب ما يدعي الآخر أنه ممتنع ، أو ما يدعي الآخر أنه من الممكنات لامن الواجبات .
العنصر الخامس : أن بعض أهل التحريف والتعطيل قالوا : إن أهل السنة مشبهة ومجسمة وممثلة :
من الغرائب أن يدعى على الإنسان ما ينكره ، فأهل السنة والجماعة ينكرون التشبيه ، وينكرون التمثيل ، ويقولون من شبه الله بخلقه فقد كفر ، فكيف يمكن أن يلزموا بما هم معترفون بإنكاره ؟! هذا عدوان محض .
أهل السنة والجماعة يقولون نحن لانشبه ، ولا نمثل ، وإنما نثبت لله ما أثبته لنفسه ، وما أثبته له رسوله بدون تمثيل، وبدون تكييف.فما بالكم تشوهون طريقنا وتقولون أنتم ممثله ومشبهة ؟! ولكن لاغرو أن يرمى أهل السنة والجماعة بمثل هذه الألقاب السيئة ، لأن رمي أهل الحق بالألقاب السيئة أمر موروث عن أعداء الأنبياء – عليهم الصلاة و السلام ، فالأنبياء قيل : إنهم سحرة . و قيل : أنهم مجانين : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذريات: الآية52) . و لكن هل الحق يغيض بمثل هذه الألقاب ؟ لا . بل يفيض ، و يزداد قوة ، و يزداد وضوحاً و بياناً – و لله الحمد – أهل السنة و الجماعة متبرءون من هذه العيوب التي يصمهم بها من يحرفون الكلام عن مواضعه . كذلك يقولون أنتم مجسمة ، كيف مجسمة و ما معنى مجسمة ؟! هذه الكلمة كلمة ( التجسيم ) لو قرأت القرآن من أوله إلى آخره و مررت على ما جاء عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، من السنة من أولها إلى آخرها لم تجد لفظ ( الجسم ) مثبتاً لله و لا منفياً عنه في كتاب الله و لا في سنة رسول الله ، صلى الله عليه و سلم ، فما بالنا نتعب أذهاننا و أفكارنا و نظهر ذلك بمظهر سوء بالنسبة لمن أثبت لله صفات الكمال على الوجه الذي أراد الله . إذ كانت كلمة ( الجسم ) غير واردة في الكتاب ، و لافي السنة ، فإن أهل السنة و الجماعة ، يمشون فيها على طريقتهم يقفون فيها موقف الساكت فيقولون : لا نثبت الجسم و لا ننكره من حيث اللفظ ، و لكننا قد نستفصل في المعنى فنقول للقائل : ماذا تريد بالجسم ؟ إن أردت الذات الحقيقية المتصفة بالصفات الكاملة اللائقة بها فإن الله – سبحانه و تعالى – لم يزل و لا يزال حياً عليماً ، قادراً ، متصفاً بصفات الكمال اللائقة به ، و إن أردت شيئاً آخر كجسمية الإنسان الذي يفتقر كل جزء من البدن إلى الجزء الآخر منه ، و يحتاج إلى ما يمده حتى يبقى فهذا معنى لا يليق بالله – عز وجل - ، و بهذا نكون أعطينا المعنى حقه .
أما اللفظ : فلا يجوز لنا أبداً أن نثبته ، أو ننفيه ، و لكننا نتوقف فيه ، لأننا إن أثبتنا قيل لنا : ما الدليل ؟ و إن نفينا . قيل لنا : ما الدليل ؟ و على هذا فيجب السكوت من حيث اللفظ ، أما من حيث المعنى فعلى التفصيل الذي بيناه .
العنصر السادس : أدعى أهل التحريف و التعطيل على أهل السنة أنهم أولوا بعض النصوص ليلزموهم بتأويل البقية أو المداهنة فيها :
هذا دعوى تلبيس ، و تشكيك ، و قد نشرت في الصحف نشرها من نشرها وقال : أنتم يا أهل السنة تشنعون علينا تقولون أنتم تأولون ، وأنتم يا أهل السنة قد أولتم فما بالكم تشنعون علينا بالتأويل وأنتم تسلكونه ؟! حقيقة إن هذه الحجة حجة قوية إذا ثبتت لأنه لا يحق لأي إنسان أن يتحكم فيما يمكن تأويله أو يجب وفيما لا يمكن ، و لكن أهل السنة و الجماعة يقولون هذه دعوى تلبيس ، و تشكيك فإننا لسنا على هذه الطريقة و أنتم رميتمونا بذلك إما لإلزامنا أن نسكت عن تحريفكم ونداهن، ولكنا بعون الله لن نسكت على ما نرمى به و نحن منه بريئون .
و هذا التأويل الذي ادعاه بعض أهل التأويل و رمي به أهل السنة و الجماعة لنا عنه جوابان.
الجواب الأول : أن نمنع أن يكون طريق أهل السنة في ذلك تأويلاً ، لأن التأويل في اصطلاح المتأخرين - و هو الذي يعنيه هؤلاء – هو صرف اللفظ عن ظاهره .
و أهل السنة يقولون : ظاهر الكلام ما دل عليه الكلام باعتبار السياق ، أو باعتبار حال المتكلم به هذا هو ظاهر الكلام و ليس للكلمات معنى خلقت له لا تستعمل في غيره ، و لكن معنى الكلمات إنما يظهر بسياقها و بحال المتكلم بها ، نحن كنا قرأنا في البلاغة أو بعض منا قرأ في البلاغة و رأي أن الاستفهام يأتي لعدة معاني ، و قرأنا في حروف الجر و معانيها ، و علمنا أن بعض الحروف يأتي لعدة معاني ، فما الذي يعين هذه المعاني ؟ أليس السياق ؟ إذاً فحقيقة الكلام ما دل عليه السياق ، و ظاهره ما دل عليه سياقه ، و ذلك باعتبار نظم الكلام و باعتبار حال المتكلم به فهذا الجواب ، جواب مجمل أن نقول : لا نسلم بأن ظاهر الكلام خلاف ما دل عليه سياقه أو حال المتكلم به ، بل ما دل عليه السياق فهو حقيقة الكلام و ظاهره مطلقاً ، حتى لو استعملت هذه الكلمة في غير هذا الموضع لمعنى آخر ، فإن استعمالها في هذا الموضوع للمعنى الذي دل عليه السياق هو في الواقع حقيقتها هذا جواب .
الجواب الثاني : لو سلمنا أن في اللفظ إخراجاً له عن ظاهره ، فإن أهل السنة و الجماعة لا يمكن أبداً أن يخرجوا لفظاً عن ظاهره إلا بدليل من الكتاب ، أو السنة متصل ، أو منفصل ، و أنا أتحدى أي واحد يأتي إلي بدليل من الكتاب ، أو السنة في أسماء الله و صفاته أخرجه أهل السنة عن ظاهره، إلا أن يكون لهم دليل بذلك من كتاب الله، أو من سنة رسوله ، صلى الله عليه و سلم ، و حينئذٍ إذا كان ما أخرجه إليه أهل السنة من المعنى ثابتاً بدليل من الكتاب و السنة فإنهم في الحقيقة لم يخرجوا عما أراد الله به ، لأنهم علموا مراد الله به من الدليل الثاني من الكتاب و السنة ، و ليسوا بحمد الله يخرجون شيئاً من النصوص عما يقال إنه ظاهره من أجل عقولهم حتى يتوصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه و إثبات ما لم يدل عليه ظاهر الكلام . هذا لا يوجد و لله الحمد في أي واحد من أهل السنة ، و الأمر إذا شئتم فارجعوا إليه في كتبهم المختصرة و المطولة ، و نحن نضرب لذلك بعض الأمثلة لا كل الأمثلة لأننا لو تتبعنا الأمثلة كلها التي قيل إن أهل السنة و الجماعة صرفوها عن ظاهرها لطال بنا الكلام لكننا نذكر عدة أمثلة فقط :
المثال الأول : قال أهل التأويل : أنتم يا أهل السنة أولتم قول الله – عز وجل - : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)(البقرة: الآية29).فقلتم إن معنى الاستواء هنا(القصد و الإرادة)،وقلتم:إن معنى الاستواء في قوله تعالى
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)(الأعراف:الآية54).(العلو و الارتفاع) ، و ما هذا إلا تأويل منكم لأحد النصين لا يمكن أن تخرجوا عنه و معلوم أن استوى على كذا معناها القصد ، إذن أخرجتم كلمة استوى عن ظاهرها.
و جوابنا على ذلك أن نقول : ( استوى ) كلمة يتحدد معناها بحسب متعلقها فمثلاً : ( استوى على العرش ) معناها العلو على وجه يليق بجلاله، و لا يشبه استواء المخلوق على المخلوق .
( استوى إلى السماء ) اختلف الحرف فكان ( إلى ) ، و ( إلى للغاية ، و ليست للعلو ، و معلوم أنها إذا كانت للغاية فإن الفعل متضمن معنى يدل على الغاية هو القصد و الإرادة ، و إلى هذا النحو ذهب بعض أهل السنة فقالوا : ( استوى إلى السماء ) أي قصد إلى السماء ، و القصد إذا كان تاماً يعبر عنه بالاستواء ، لأن الأصل في اللغة العربية أن مادة الاستواء تدل على الكمال كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى)(القصص: الآية14) .
و جواب آخر أن نقول : ( استوى إلى السماء ) بمعنى ارتفع . قال البغوي : و هو مروي عن ابن عباس و أكثر المفسرين ، و لكن هذا يجب أن لا نظن أن الله – سبحانه و تعالى – قد انتفى عنه العلو حين خلق الأرض ، بل إنه – سبحانه و تعالى – لم يزل ، و لا يزال عالياً ، لأن العلو صفة ذاتية و لكن الاستواء هنا و إن كان بمعنى الارتفاع ، إلا أننا لا نعلم كيفيته و هذا جواب آخر عن الآية .
و الخلاصة الآن أننا إذا فسرنا ( استوى إلى السماء ) بمعنى قصد إليها على وجه الكمال فإننا لم نخرج عن ظاهر اللفظ ، و ذلك لاختلاف حرف الجر الذي تعلق باستوى في قوله
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)(الأعراف: الآية54). وفي قوله
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ )(البقرة: الآية29) . و إذا قلنا بالقول الثاني الذي هو مروي عن ابن عباس و أكثر المفسرين بأنه ارتفع ، فإنه لا يجوز لنا أن نتوهم بأن الله تعالى لم يكن عالياً من قبل .
أما المثال الثاني : قال أهل التأويل : أنتم يا أهل السنة فسرتم قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(القمر: الآية14) . أي بمرأى منا و هذا خلاف ظاهر اللفظ .
نقول لهم : ماذا تفهمون من هذا اللفظ ؟ هل أحد يمكن أن يفهم أن الباء للظرفية ، و أن سفينة نوح تجري في عين الله ؟! أبداً لا أحد يفهم هذا إطلاقاً ، و إتيان الباء للظرفية في بعض المواضع وارد لكن في هذه الآية لا يمكن أبداً أن يكون كذلك .
إذن فهذا الظاهر الذي زعمتم أنه ظاهر الآية لا نسلم أبداً أنه ظاهرها ، لكن الذين فسروا : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(القمر: الآية14) . بمرأى منا هؤلاء فسروا اللفظ بلازمه ، و ذلك صحيح ، و ليس خروجاً باللفظ عن ظاهره ، لأن دلالة اللفظ على معناه : إما دلالة مطابقة ، أو دلالة تضمن ، أو دلالة التزام ، و كل من الدلالات لا يخرج اللفظ عن ظاهره . هذه الدلالات الثلاث أوضحها بالمثال :
(البيت) يعني الدار تدل على جملة الدار و كتلتها جميعاً بالمطابقة ، أي تدل على بناء مكون من حجر ، و غرف ، و ساحات و غيرها بالمطابقة .و تدل على كل حجرة أو كل غرفة ، أو كل ساحة بالتضمن . و تدل على أن هذا البيت لا بد له من بان بناه بالالتزام .
فنحن نقول : تجري بأعيننا إذا كان الله تعالى يراها بعينه و يرعاها فإنها تجري بمرأى منه ، و هذا معنى صحيح ، و يمكن أن نجيب بجواب آخر بأن معناها: تجري مرئية بأعيننا ، و المهم أن نثبت من هذه الآية أن لله – سبحانه و تعالى – عيناً لا تشبه أعين المخلوقين ، و لا يمكن أن نتصور لها كيفية ، و بذلك لم نخرج عن ظاهر اللفظ .
و قد فسر ابن عباس – رضي الله عنهما – قوله تعالى : ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طـه: الآية39) . إنها العين الحقيقية و المعنى أن موسى ، صلى الله عليه و سلم ، يرب على عين الله أي : على رؤية بعين الله – سبحانه و تعالى - .
المثال الثالث : قال أهل التأويل : أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم)(الواقعة: الآية85) . إلى أن المراد أقرب بملائكتنا و هذا تأويل ، لأنا لو أخذنا بظاهر اللفظ لكان الضمير (نَحْنُ) يعود إلى الله ، و أقرب خبر المبتدأ ، و فيه ضمير مستتر يعود على الله ، فيكون القرب لله – عز وجل -، و معلوم أنكم أهل السنة لا تقولون بذلك ، لا تقولون إن الله تعالى يقرب من المحتضر بذاته حتى يكون في مكانه ، لأن هذا أمر لا يمكن أن يكون ، إذ أنه قول أهل الحلول الذي ينكرون علو الله – عز وجل –، و يقولون إنه بذاته في كل مكان و أنتم أهل السنة تنكرون ذلك أشد الإنكار . إذن ما تقولون أنتم يا أهل السنة ألستم تقولون نحن أقرب إليه أي إلى المحتضر بملائكتنا ، أي الملائكة تحضر إلى الميت و تقبض روحه ؟! هذا تأويل ، قلنا الجواب على ذلك سهل و لله الحمد ، فإن الذي يحضر الميت هم الملائكة (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: الآية61) . (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم)(الأنعام: الآية93) . فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة ، وأيضاً في نفس الآية ما يدل على أنه ليس المراد قرب الله – سبحانه وتعالى – نفسه فإنه قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة: الآية85) . فهذا يدل على أن هذا القريب الحاضر ، لكن لا نبصره ، وذلك لأن الملائكة عالم غيبي الأصل فيهم الخفاء وعدم الرؤية . وعلى هذا فنحن لم نخرج بالآية عن ظاهرها لوجود لفظٍ فيها يعين المراد ، ونحن على العين والرأس ، والقلب نقبل كل شيء كان بدليل من كتاب الله ، ومن سنة رسوله ، صلى الله عليه و سلم .
المثال الرابع : قال أهل التأويل : أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)(الحديد:الآية4). فقلتم : وهو معكم بعلمه ، وهذا تأويل فإن الله تعالى يقول : ( وَهُوَ مَعَكُم)(الحديد: الآية4) . و الضمير في قوله : ( وَهُوَ مَعَكُم) يعود إلى الله . فأنتم يا أهل السنة أولتم هذا النص و قلتم : إنه معكم بالعلم . فإذا كيف تنكرون علينا التأويل ؟
قلنا : نحن لم نؤول الآية ، بل إنما فسرناها بلازمها وهو : العلم ، و ذلك لأن قوله ( وَهُوَ مَعَكُم) . لا يمكن لأي إنسان يعرف قدر الله عز وجل و يعرف عظمته ، أن يتبادر إلى ذهنه أنه هو ذاته مع الخلق في أمكنتهم ، فإن هذا أمر مستحيل ، كيف يكون الله معك في البيت و مع الآخر في المسجد ، و مع الثالث في الطريق ، و مع الرابع في البر ، و مع الخامس في الجو ، و مع السادس في البحر : إلخ ؟! لو قلنا بهذا فكم إلها يكون لو قلنا بهذا لزم أن يكون الله إما متعدداً، أو متجزئاً – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – و هذا أمرلا يمكن و لهذا نقول: من فهم هذا الفهم فهو ضال في فهمه و من اعتقده فإنه ضال إن قلد غيره بذلك ، و كافر إذا بلغه العلم و أصر على قوله ، و من نسب إلى أحد من السلف أن ظاهر الآية أن الله معهم بذاته في أمكنتهم ، فإنه بلا شك كاذب عليهم . إذاً أهل السنة و الجماعة يقولون : نحن نؤمن بأن الله تعالى فوق عرشه ، و أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته و أنه مع خلقه كما قال في كتابه ، و لكن مع إيماننا بعلوه . و لا يمكن أن يكون مقتضى معيته إلا الإحاطة بالخلق علماً ، و قدرة ، و سلطاناً ، و سمعا ، و بصراً ، و تدبيراً و غير ذلك من معاني الربوبية إما أن يكون حالاً في أمكنتهم ، أو مختلطاً بهم كما يقول أهل الحلول و الاتحاد ، فإن هذا أمر باطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر الكتاب و السنة و على هذا فنحن لم نؤول الآية و لم نصرفها عن ظاهرها ، لأن الذي قال عن نفسه ( وَهُوَ مَعَكُم)(الحديد: الآية4) هو الذي قال عن نفسه : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)(البقرة: الآية255) . و هو الذي قال عن نفسه : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)(الأنعام: الآية18). إذن فهو فوق عباده ، و لا يمكن أن يكون في أمكنتهم ، و مع ذلك فهو معهم محيط بهم علماً و قدرة ، و سلطاناً ، و تدبيراً و غير ذلك .
و إذا أضيفت المعية إلى من يستحق النصر من الرسل و أتباعهم اقتضت معم الإحاطة علماً و قدرة ، اقتضت نصراً و تأييداً ، فنحن و لله الحمد ما خرجنا بهذا اللفظ عن ظاهره حتى يلزمونا بذلك . و قد بين شيخ الإسلام – رحمه الله – في كتبه المختصرة و المطولة أنه لا تعارض بين معنى المعية حقيقة و بين علو الله سبحانه و تعالى ، قال : لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء ، في جميع صفاته فهو على في دنوه قريب في علوه ).
و قال : ( إن الناس يقولون ما زلنا نسير و القمر معنا ، مع أن القمر في السماء ، و هم يقولون معنا فإذا كان هذا ممكناً في حق المخلوق كان في حق الخالق من باب أولى ) .
و المهم أننا نحن معشر أهل السنة ما قلنا أبداً و لا نقول إن ظاهر الآية هو ما فهمتموه و أننا صرفناها عن ظاهرها ، بل نقول : إن الآية معناها أنه سبحانه مع خلقه حقيقة ، معية تليق به ، محيط بهم علماً و قدرة ، و سلطاناً ، و تدبيراً ، و غير ذلك لأنه لا يمكن الجمع بين نصوص المعية و بين نصوص العلو إلى على هذا الوجه الذي قلناه ، و الله سبحانه و تعالى يفسر كلامه بعضه بعضاً .
المثال الخامس : قال أهل التأويل : إنه ثبت عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، أنه قال : قال الله تعالى : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، و ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها ، و رجله التي يمشي بها و لئن سألني لأعطينه ، و لئن استعاذني لأعيذنه ) . و أنتم يا أهل السنة هل تقولون أن الله يكون سمع ، و بصر ، و يد ، و رجل من يحبه حقيقة ؟ إن لم تقولوا بذلك فقد صرفتم الحديث عن ظاهره ، لأن الله يقول : (كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها ، و رجله التي يمشي بها )
و جوابنا : أنه لا أحد يفهم أن ظاهر الحديث هو هذا أي أن الله يكون سمع الإنسان و بصره ، و رجله ، و يده حقيقة ، لا أحد يفهم هذا ، إلا من كان بليد الفهم ، أو مظلم القلب بالتقليد أو بالدعوة الباطلة . فالحديث لا يدل على أن حقيقة سمع الإنسان ، وبصره ، و رجله ، و يده هو الله عز وجل ، و حاشاه عز وجل عن ذلك ، لا يدل على هذا بأي وجه من الوجوه . اقرأ الحديث : (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) . (و ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) .
فأثبت عابداً و معبوداً ، و متقرباً و متقرباً إليه ، (و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) فأثبت محباً و محبوباً ، (و لئن سألني لأعطينه) فأثبت سائلاً و مسئولاً ، و معطي و معطى (و لئن استعاذني لأعيذنه ) فأثبت مستعيذاً و مستعاذاً به ، و من المعلوم أن كل واحد من هذين هو غير الآخر بلا ريب إذا تقرر هذا فكيف يمكن أن يفهم أحد من قوله تعالى في هذا الحديث القدسي : (كنت سمعه ) إن الله سيكون جزءاً في هذا المخلوق الذي يتقرب إليه ، و الذي يستعيذ به ، و الذي يسأله ، هذا لا يمكن أحداً أن يفهمه أبداً من سياق الحديث ، و بهذا يكون معنى الحديث و ظاهر الحديث و حقيقة الحديث : أن الله سبحانه و تعالى يسدد هذا الإنسان في سمعه ، و بصره ، و سعيه ، فلا يسمع إلا بالله ، و لله ، و في الله ، و لا ينظر إلا لله ، و بالله ، و في الله و لا يبطش إلا لله ، و بالله ، و لا يمشي إلا لله ، و بالله ، و في الله، هذا هو معنى الحديث، و حقيقته و ظاهره، و ليس فيه و لله الحمد أي شيء من التأويل .
المثال السادس : قال أهل التأويل : إنكم يا أهل السنة أولتم قول الرسول ، صلى الله عليه و سلم : ( إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ) . حيث قلتم : إن المراد أن الله سبحانه و تعالى متصرف في القلوب ، و لا يمكن أن تكون القلوب بين إصبعين من أصابع اليد فإن هذا يقتضي الحلول و أن أصابع الله حالة في صدر كل إنسان .
قلنا : هذا كذب على السلف و السلف ما أولوا هذا التأويل ، و لا قالوا إن الحديث كناية عن سلطان الله تعالى ، و تصرفه في القلوب بل قالوا : نثبت أن لله تعالى أصابع و أن كل قلب من بني آدم فهو بين اصبعين من أصابعه على وجه الحقيقة ، و لا يلزم من ذلك الحلول أبداً ، فإن البينية بين شيئين لا يلزم منها المماسة و المباشرة ، أرأيتم قول الله تعالى : ( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ)(البقرة: الآية164) . فهل يلزم من ذلك التعبير أن يكون السحاب لاصقاً بالسماء و الأرض ؟! لا يمكن فقلوب بني آدم كلها ، كما قال نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، وهو أعلم الخلق بالله : ( بين اصبعين من أصابع الرحمن ) و لا يلزم من ذلك أن يكون مماساً لهذه القلوب بل نقول كما قال نبينا ، و نقول هذا على وجه الحقيقة وليس فيه تأويل . و نثبت مع ذلك أيضاً أن الله تعالى يتصرف في هذه القلوب كما يشاء كما جاء في الحديث و نقول : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك .
المثال السابع و الأخير : فهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، قال أهل التأويل : إنكم تؤولون هذا الحديث ، لأنكم لا يمكن أن تقولوا إن الحجر هو يد الله . و نقول هذا حق ، لا يمكن لأحد أن يقول عن الحجر الأسود هو يد الله عز وجل و لكن قبل أن نجيب على هذا نقول : إن هذا الحديث باطل و لا يثبت عن النبي ، صلى الله عليه و سلم . قال ابن العربي : إنه حديث باطل و قال ابن الجوزي في (العلل المتناهية ): إنه حديث لا يصح. و قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (روي عن النبي ، صلى الله عليه و سلم، بإسناد لا يثبت ) .
و على هذا فإنه ليس وارداً على أهل السنة و الجماعة لأنه لا يصح عن النبي ، صلى الله عليه و سلم ، و لكن قال شيخ الإسلام إنه مشهور عن ابن عباس ، و لكنه مع ذلك لا يعطي المعنى الذي قاله هؤلاء ، وأن الحجر الأسود يمين الله ، لأنه قال : ( يمين الله في الأرض فقيده ) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – و الكلام إذا قيد ليس كالكلام المطلق ما قال : يمين الله و سكت . قال : في الأرض . و معلوم أن يمين الله ليست في الأرض ، كذلك أيضاً قال في نفس الحديث كما رواه شيخ الإسلام ابن تيمية
فمن صافحه فكأنما صافح الله ) ، و التشبيه يدل على أن المشبه به ليس هو المشبه ، و إنما هو غيره .
و خلاصة القول :
إن أهل السنة و الجماعة – و لله الحمد – لا يمكن أن يخرجوا الكلام عن ظاهره ، لأن ظاهر الكلام و حقيقته ما دل عليه سياقه و هو مختلف بحسب السياق ، و بحسب الأحوال فإن لم يكن ذلك و أبي إنسان إلا أن يجعل معنى الكلمة معنى ذاتياً لها فإننا نقول لا يمكن لأهل السنة و الجماعة أن يتركوا هذا المعنى الذي ادعى أنه ذاتي لها إلا بدليل من الكتاب و السنة و متى دل الكتاب و السنة على شيء وجب القول به سواء وافق ما يقال إنه ظاهر اللفظ ، أو خالفه ، و نحن كلنا نلتمس ما قاله الله عن نفسه ، و ما قاله عنه رسوله ، صلى الله عليه و سلم ، و يدلكم لهذا ما ثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول : ( عبدي جعت فلم تطعمني ، عبدي مرضت فلم تعدني ، فيقول كيف أطعمك وأنت رب العالمين ، كيف أعودك وأنت رب العالمين ، فيقول الله عزوجل : أما علمت أن عبدي فلان جاع فلم تطعمه مرض فلم تعده ).
هذا الحديث يدلنا دلالة ظاهرة على أن ما جاء في الكتاب والسنة